في وقت كانت الحياة تسير بوتيرة طبيعية، اقتحم فيروس كورونا حياة البشر دون يدرك أحد أن هذا الكائن المجهري، قادر على تغيير مسار البشرية ووقف عجلة الحياة لفترة طويلة.
ورغم الجهود العالمية التي بُذلت لمواجهته بالأسلحة العلمية والإجراءات الاحترازية، لا يزال الفيروس في تطور مستمر، ومؤخراً ظهر المتحور الجديد "XEC"، الذي يحمل نفس صفات المتحورات السابقة، لكنه أكثر انتشاراً.
في أوائل أغسطس 2024، وردت بلاغات عن ظهور إصابات بـ متحور فيروس كورونا "XEC" في ألمانيا، وعدد من الدول الأوروبية، واستمر في الانتشار منذ ذلك الحين حتى أُصيب أكثر من 600 شخص في 27 دولة بأوروبا وأمريكا الشمالية وآسيا.
وفي 18 سبتمبر 2024، ارتفعت وتيرة حالات الإصابة بالفيروس بشكل كبير، وسجلت الولايات المتحدة 118 حالة، وألمانيا 92 حالة، والمملكة المتحدة 82 حالة، وكندا 77 حالة، والدنمارك 61 حالة.
خاضت "بوابة صحة" رحلة بحث طبية عبر مختلف دول العالم، لمعرفة الأسباب الكامنة وراء استمرار تحور فيروس كورونا مجهول الهوية، ولماذا لم نستطع التصدي له بشكل نهائي حتى الآن؟
أسباب ظهور سلالات جديدة من فيروس كورونا
نبدأ رحلة البحث من الهند، حيث أوضحت د. بافيثرا فينكاتاجوبالان، عالمة فيروسات وحاصلة على دكتوراه في علم الأحياء الدقيقة لـ"بوابة صحة"، أن متحور كورونا "XEC" لا يُعد طفرة تهدد الحياة على الإطلاق.
وعند التطرق إلى أسباب ظهور سلالات جديدة من فيروس كورونا رغم اتخاذ الإجراءات الوقائية، قالت إن طبيعة الفيروسات وكيفية تفاعلها مع جسم الإنسان تلعب دوراً كبيراً في التحور، ولتفسير الأمر بوضوح، ذكرت الأسباب التالية:
1- طفرة الفيروس: تتكاثر الفيروسات، بما في ذلك فيروس كورونا (SARS-CoV-2)، داخل الخلايا البشرية، وخلال هذه العملية يمكن أن تحدث طفرات في المادة الوراثية للفيروس، وعلى الرغم من أن معظم هذه الطفرات لا تؤثر بشكل كبير على الفيروس، فإن بعضها يمكن أن يساعد على بقائه أو انتشاره أو عرقلة الاستجابة المناعية، مما يؤدي إلى ظهور متغيرات جديدة.
2-الضغط الانتقائي: عندما يتم تطبيق التدابير الوقائية مثل التطعيم أو ارتداء الكمامات أو التباعد الاجتماعي، يواجه الفيروس "ضغطاً انتقائياً" للتكيف مع الظروف المحيطة، ومن المرجح أن تتحور الطفرات التي لم يستطع الجهاز المناعي مواجهتها وتنتشر بسهولة.
3. التطور الفيروسي: يُعد التطور الفيروسي من العمليات الطبيعية، والفيروسات مثل SARS-CoV-2 تتطور سريعاً، وحتى مع حملات التطعيم العالمية، فإن الفيروس يمكن أن يستهدف العديد من المضيفين -كائن حي كبير يؤوي كائناً أصغر- سواء كان ضيفاً طفيلياً أو متكافلاً ويتكاثر فيها، مما يسمح له بالتكيف بشكل مستمر.
4-المناعة غير المكتملة: في حين أن اللقاحات تقلل بشكل كبير من شدة المرض، فإنها غير قادرة على منع جميع أنواع العدوى، ونتيجة ذلك، تسمح المناعة غير الكاملة للفيروس بالانتشار والتطور، مما يؤدي إلى ظهور متغيرات تواجه المناعة.
لفتت عالمة الفيروسات الهندية إلى أن فيروس كورونا (SARS-CoV-2) ليس الفيروس الوحيد الذي يتحور، مؤكدة أن جميع الفيروسات بما في ذلك المسببة لمرض الحصبة والأوبئة الأخرى تخضع للطفرات، ومع ذلك، فإن معدل طفرة الفيروس وتطوره يختلفان اعتماداً على نوع الفيروس وكيفية تفاعله مع مضيفه.
فيروس كورونا مقارنة بالحصبة والطاعون
ولإيضاح الأمر نوهت فينكاتاجوبالان إلى الأسباب التي تجعل فيروس SARS-CoV-2 يبدو وكأنه يتحور بسرعة أكبر مقارنة بالفيروسات الأخرى مثل الحصبة:
● يزداد معدل طفرات فيروسات الحمض النووي الريبوزي (RNA)، مثل SARS-CoV-2، مقارنة بـ فيروسات الحمض النووي (DNA).
● الحصبة، على سبيل المثال، يسببها فيروس RNA أيضاً، ولكن معدل تحوره أبطأ من معدل طفرة SARS-CoV-2.
● تسبب فيروس SARS-CoV-2 في حدوث جائحة عالمية، مما يعني أنه تكاثر ملايين المرات في المضيف البشري في جميع أنحاء العالم، وبالتالي كلما زاد عدد المضيفين المصابين، زادت فرص حدوث الطفرات.
● تم التحكم بشكل أفضل في الفيروسات الأخرى، مثل تلك المسببة لمرض الحصبة من خلال التطعيم أو الحجر الصحي، مما أدى إلى تقليل معدل تحور الفيروس.
● يتكاثر فيروس SARS-CoV-2 سريعاً في الخلايا البشرية، ويكون تكاثره القائم على الحمض النووي الريبوزي (RNA) أكثر "عرضة للخطأ" من فيروسات الحمض النووي (DNA)، وينتج عن ذلك طفرات أكثر تكراراً في كل جيل فيروسي، ما يساهم في الانتشار.
● ومن ناحية أخرى، فإن الحصبة أقل عرضة لمثل هذه الطفرات السريعة لأنها فيروس مستقر نسبياً في التجمعات السكانية البشرية بسبب التطعيم.
● يمكن أن ينتقل SARS-CoV-2 دون ظهور أعراض على الإطلاق لفترة من الوقت، وهذا بدوره يسمح للفيروس بالانتشار دون أن يلاحظه أحد، مما يساعد في زيادة معدل الإصابة لدى العديد من الأفراد الذين لا تظهر عليهم الأعراض، ونتيجة لذلك، تنتشر مزيد من الطفرات.
● لا تنتقل الحصبة والفيروسات الأخرى بشكل صامت، أي تظهر الأعراض سريعاً ما يحد من ظهور الطفرات.
● يختلف فيروس SARS-CoV-2 كثيراً عن الحصبة، ويرجع ذلك إلى أنه يتعامل مع مستويات متفاوتة من المناعة البشرية، ويمكن الإصابة به مرة أخرى، ما يسمح بزيادة معدل الطفرات والمتحورات.
● بالنسبة لأمراض مثل الحصبة، يكتسب الأشخاص مناعة مدى الحياة بعد الإصابة أو تلقي اللقاح، وهذا يعني أن الفيروس يواجه ضغطاً أقل للتحور لزيادة المناعة البشرية.
سبب ظهور فيروس كورونا
وعند التطرق إلى الأسباب الحقيقية وراء ظهور فيروس كورونا من العدم، قالت "فينكاتاجوبالان" إنه وفقاً لمنظمة الصحة العالمية والدراسات العلمية المختلفة، تظل الخفافيش هي السبب الرئيسي لانتشار هذا الفيروس، ومن المحتمل أن يكون لبعض الحيوانات البرية الأخرى دور في نقل الفيروس إلى البشر، مثل حيوان البنغول، كما أن للفيروس خصائص تشير إلى أنه يتكيف مع انتقال العدوى بين البشر، مما يجعله سريع الانتشار، وهذا يسلط الضوء على احتمالية أن يكون الفيروس تطور في الحيوانات قبل أن ينتقل إلى البشر.
من المؤكد أن العالم أجمع ينتظر اللحظة التي يختفي فيها فيروس كورونا للأبد، ولكن أشارت "فينكاتاجوبالان" إلى أنه لا يوجد لـ جائحة كوفيد-19 "نهاية واضحة"، ولكن من المتوقع أن تنتقل من جائحة إلى مرض متوطن، حيث يستمر الفيروس في الانتشار بمستويات أقل، ولكن سوف تستمر المتغيرات في الظهور.
فاعلية اللقاحات تقل مع استمرار تطور الفيروس
قالت عالمة الفيروسات الهندية إنه مع استمرار تطور الفيروس، وظهور متحورات ومتغيرات جديدة مثل XBB، وBA.4/BA.5، وXEC، تقل فاعلية اللقاحات، ومع ذلك، فإن اللقاحات وخاصة مع الجرعات المعززة، لا تزال توفر حماية قوية ضد الأعراض الشديدة التي تسببها هذه المتغيرات.
وبالإضافة إلى ذلك، طورت كل من شركتي "فايزر" و"موديرنا" لقاحات محدثة تستهدف على وجه التحديد المتغيرات الفرعية الأحدث من أوميكرون، وأظهرت هذه اللقاحات فاعلية متزايدة ضد السلالات المنتشرة الحالية.
أصبح العقل البشري أكثر تحملاً لظهور طفرات من فيروس كورونا لعدة أسباب نفسية واجتماعية وبيولوجية، وهذا ما أوضحته عالمة الفيروسات الهندية خلال حديثها، حيث فسرت بأن هناك عدة عوامل أدت إلى ذلك، وتتضمن ما يلي:
العقل البشري أصبح أكثر تحملاً لظهور طفرات من فيروس كورونا
● معرفة المعلومات الكافية حول الطفرات وموجات الوباء أدى إلى التخلص من الشعور بالتوتر أو الخوف أو القلق، وهذا ما يُعرف باسم "استجابة نفسية"، حيث تتضاءل الصدمة أو الخوف الأولي مع مرور الوقت والتعرض المتكرر.
● آليات التكيف: طور العلماء استراتيجيات عدة، للتعامل مع التوتر المرتبط بالوباء، مثل التركيز على تدابير السلامة الشخصية، أو الاعتماد على دعم المجتمع، أو البحث عن معلومات موثوقة.
وعلى الجانب الآخر، أكدت دراسات أن فيروس كورونا أثر بشكل سلبي على الدماغ، حيث أوضحت دراسة بريطانية 2022، أن هناك علاقة واضحة بين الإصابة بـ فيروس كورونا، وتقلص حجم الدماغ وتلف الأنسجة، نقلاً عن "NIH".
وبالفعل أجرى باحثون بريطانيون فحوصات على 785 مشاركاً بريطانياً -تتراوح أعمارهم بين 51 و81 عاماً- بما في ذلك التصوير بالرنين المغناطيسي على الدماغ مرتين، وكان من بينهم 401 حالة أُصيبت بفيروس SARS-CoV-2، ومع مرور 141 يوماً بين التشخيص الأولي والفحص الثاني، تبين أن الأشخاص المصابين بفيروس SARS-CoV-2 هم الأكثر عرضة لتغيير بنية الدماغ.
وخلصت النتائج إلى أن الأفراد الذين أصيبوا بـSARS-CoV-2، كانوا يعانون من انخفاض كبير في سمك المادة الرمادية وتباين الأنسجة في القشرة الجبهية، بجانب تلف الأنسجة في المناطق المرتبطة وظيفياً بالقشرة الشمية الأولية -وهي جزء من القشرة الدماغية مرتبطة بحاسة الشم- وانخفاض في حجم الدماغ.
اختتمت فينكاتاجوبالان حديثها بأن اللقاحات تزيد من القدرة المناعية، ولكن مع مرور الوقت، يقل تأثير اللقاح، ومن المحتمل أن يصاب الأشخاص مرة أخرى، وبناءً على ذلك، ينبغي تلقي جرعات معززة من فترة إلى أخرى؛ لتعزيز قدرة الجهاز المناعي على مكافحة العدوى.
ينبغي تلقي جرعات معززة من اللقاحات لتعزيز قدرة الجهاز المناعي
تنتقل "بوابة صحة" من الهند إلى السويد، إذ تحدثت إلى كارل ليلرود، خبير الذكاء الاصطناعي، ومستشار تكنولوجيا المعلومات، حول الدور الذي يلعبه الذكاء الاصطناعي في الكشف عن الفيروسات القادمة.
وقال "ليلرود": "الذكاء الاصطناعي (AI) يُحدث ثورة في اكتشاف الطفرات الفيروسية وتحليلها، مما يعزز قدرتنا على الاستجابة للأوبئة"، وإليك كيفية مساهمة الذكاء الاصطناعي في هذا المجال:
دور الذكاء الاصطناعي (AI) في اكتشاف الطفرات الفيروسية
أشار "ليلرود" إلى أنه يمكن لنماذج الذكاء الاصطناعي معالجة البيانات الجينومية لتحديد الطفرات بشكل سريع، على سبيل المثال، تعتمد أداة "EVEscape" على الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بالمتغيرات الفيروسية قبل ظهورها، مما يساهم في الكشف المبكر والاستجابة العاجلة.
أضاف الخبير السويدي أن التحليلات التنبؤية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي تتيح إمكانية تطوير أنظمة مراقبة عالمية؛ لرصد حالات التفشي المحتملة، كما أثبتت أدوات مثل "BlueDot" القدرة على تحديد حالات تفشي المرض في وقت مبكر.
وأشار "ليلرود" إلى أنه يمكن للذكاء الاصطناعي تقييم خطر انتقال الفيروس من خلال تحليل مصادر البيانات المختلفة، على سبيل المثال، حيث تم تطوير أدوات الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالمتغيرات الفيروسية قبل ظهورها، مما يساهم في تطوير لقاحات وعلاجات فعالة.
واختتم "ليلرود" بأن البيولوجيا الحاسوبية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي تسمح بمحاكاة التطور الفيروسي والتنبؤ به.
ولمعرفة القدرة الحقيقية للذكاء الاصطناعي على مساندة البشرية على أرض الواقع خلال حروبهم الفيروسية، حاورت "بوابة صحة" أداة الذكاء الاصطناعي الأشهر "ChatGPT" بشكل مباشر؛ لمعرفة إلى أي مدى يمكن أن يحمي الكوكب والأجيال القادمة من الأوبئة، ورد "ChatGPT": "بوصفي نموذج ذكاء اصطناعي، لا أمتلك القدرة على اتخاذ قرار لحماية الكوكب، الأمر يتطلب جهوداً جماعية من العلماء والمنظمات الدولية والعلماء"، وبالتالي يساعد الذكاء الاصطناعي الطبيب في تشخيص المرضى، وإجراء بعض الجراحات الروبوتية أي لا يمكن الاستغناء عن القوة البشرية والاعتماد فقط على الذكاء الاصطناعي.
من المؤكد أن التغير الجيني لأي فيروس، يمكن أن يتسبب في خلق تحديات جديدة، وهذا ما أشارت إليه شيبا بارفين، عالمة سريرية باكستانية متخصصة في علم الأحياء الجزيئية، مؤكدة أن بعض الطفرات في IFNAR1 وTLR7 والجينات الأخرى المرتبطة بالإنترفيرون -المواد البروتينية التي يتم إنتاجها في الخلايا البشرية نتيجة التعرض للفيروسات- تؤدي إلى إضعاف الاستجابة الأولية المضادة للفيروسات، مما يؤدي إلى عدوى أكثر خطورة، كما يؤثر حدوث تغيرات في جين ACE2 على كيفية ارتباط الفيروس بالخلايا المضيفة، ما يسهل الارتباط وبالتالي تزداد فرص الإصابة بالعدوى.
التغير الجيني لأي فيروس يتسبب في خلق تحديات جديدة
ومن أجل وصف دقيق لهذه الجزئية، تواصلت "بوابة صحة" مع د. ليث الغريفي، وهو طبيب أمراض تنفسية عراقي، وأكد أنه يمكن للمتغيرات الجينية التي تحدث في الفيروسات الجديدة أن تكشف لنا أسراراً عن تطور الفيروسات.
وأضاف: "كل متحور جديد هو بمثابة كتاب مفتوح لفهم كيفية تطور الفيروسات، وعندما نحلل الجينوم الخاص بالمتحورات، يمكننا رؤية كيف يتكيف الفيروس للبقاء والانتشار، سواء من خلال تحسين قدرته على العدوى أو مواجهة الجهاز المناعي".
وفي هذا الصدد، لفت "الغريفي" إلى أن ظهور متحورات جديدة لفيروس كورونا على سبيل المثال يمثل تحدياً كبيراً، ويرجع ذلك إلى أن الطفرات التي تحدث في مناطق رئيسية مثل البروتين الشوكي للفيروس تؤدي إلى تغييرات في كيفية تعرف الجهاز المناعي عليه، وبناءً على ذلك، يتطلب هذا الأمر تطويراً مستمراً للقاحات، ومن حسن الحظ، أن التقنيات الحديثة مثل لقاحات الـmRNA أعطتنا مرونة في تحديث اللقاحات بشكل سريع.
وعند الحديث حول كيفية تأثير كورونا على الجينوم البشري، صرح الطبيب العراقي بأن فيروس كورونا لا يمكنه دمج مادته الوراثية في الجينوم البشري كما هو الحال مع فيروسات مثل الإيدز، لكنه يترك بصمات غير مباشرة، وعلى الجانب الآخر، يمكن أن تؤثر العدوى الحادة أو طويلة الأمد على الجينات المسؤولة عن المناعة، على سبيل المثال، البروتين الشوكي للفيروس يستخدم مستقبلات معينة مثل ACE2 للدخول إلى الخلايا البشرية، ما يُحدث خللاً في الجهاز المناعي.
وبالتالي لا بُد أن يكون العالم في حالة تأهب دائمة، والتعلم من الدروس السابقة التي رسخها فيروس كورونا في عقول البشرية، للتصدي بشكل أكثر احترافية لأي فيروسات قادمة، يمكن أن تهدد قطاع الصحة.